كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
لَمَّا كَانَ الْجَوَابُ عَنِ اقْتِرَاحِهِمُ الْآيَةَ الْكَوْنِيَّةَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ يَتَضَمَّنُ- بِمَعُونَةٍ مَا يُفَصِّلُهُ مِنَ الْآيَاتِ- أَنَّ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَانِدِينَ لَا يَقْتَنِعُونَ بِالْآيَاتِ، وَأَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْهَا بِأَعْيُنِهِمْ يُكَابِرُونَ حِسَّهُمْ وَلَا يُؤْمِنُونَ، ضَرَبَ اللهُ تَعَالَى مَثَلًا لَهُ فِي آيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ فِي أَفْعَالِهِ وَحِكَمِهِ فِيهَا، وَمَا لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَانِدِينَ مِنَ الْمَكْرِ فِيهَا وَكَوْنِهَا لَا تَزِيدُهُمْ إِلَّا ضَلَالًا فَقَالَ: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ} هَذِهِ الشَّرْطِيَّةُ مُنْتَظِمَةٌ مَعَ أُخْتَيْهَا فِي الْآيَتَيْنِ 12 و15 فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ، وَالذَّوْقُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: إِدْرَاكُ الطَّعْمِ بِالْفَمِ، وَالْمُدْرِكُ لَهُ عَصَبٌ خَاصٌّ فِي اللِّسَانِ، وَاسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي إِدْرَاكِ غَيْرِهِ مِنَ الْمُلَائِمَاتِ كَالرَّحْمَةِ وَالنِّعْمَةِ، وَالْمُؤْلِمَاتِ كَالْعَذَابِ وَالنِّقْمَةِ، وَالضَّرَّاءُ الْحَالَةُ مِنَ الضُّرِّ الْمُقَابِلِ لِلنَّفْعِ، وَيُقَابِلُهَا السَّرَّاءُ مِنَ السُّرُورِ، أَيْ وَإِذَا كَشَفْنَا ضَرَّاءَ مَسَّ النَّاسَ أَلَمُهَا، بِرَحْمَةٍ مِنَّا أَذَقْنَاهُمْ لَذَّتَهَا عَلَى أَتَمِّهَا؛ لِأَنَّ الشُّعُورَ بِهَا عَقِبَ زَوَالِ ضِدِّهَا يَكُونُ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ _ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا {إِذَا} هَذِهِ تُسَمَّى الْفُجَائِيَّةُ، وَالْجُمْلَةُ جَوَابٌ لِلشَّرْطِ، أَيْ مَا كَانَ مِنْهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ بَادَرُوا إِلَى الْمَكْرِ، وَأَسْرَعُوا بِالْمُفَاجَأَةِ بِهِ فِي مَقَامِ الشُّكْرِ، فَإِذَا كَانَتِ الرَّحْمَةُ مَطَرًا أَحْيَا الْأَرْضَ، وَأَنْبَتَ الزَّرْعَ، وَدَرَّ بِهِ الضَّرْعُ بَعْدَ جَدَبٍ وَقَحْطٍ أَهْلَكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، قَالُوا: مُطِرْنَا بِالْأَنْوَاءِ، وَإِذَا كَانَتْ نَجَاةً مِنْ هَلَكَةٍ وَأَعْوَزَتْهُمْ أَسْبَابُهَا، عَلَّلُوهَا بِالْمُصَادَفَاتِ، وَإِذَا كَانَ سَبَبَهَا دُعَاءُ نَبِيِّهِمْ أَنْكَرُوا إِكْرَامَ اللهِ لَهُ وَتَأْيِيدَهُ بِهَا، كَمَا فَعَلَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ عَقِبَ آيَاتِ مُوسَى، وَكَمَا فَعَلَ مُشْرِكُو مَكَّةَ إِثْرَ الْقَحْطِ الَّذِي أَصَابَهُمْ بِدُعَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ، ثُمَّ رُفِعَ عَنْهُمْ بِدُعَائِهِ، فَمَا زَادَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا كُفْرًا وَجُحُودًا وَمَكْرًا وَكَنُودًا.
أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اسْتَعْصَوْا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا عَلَيْهِمْ بِسِنِينَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ، فَأَصَابَهُمْ قَحْطٌ وَجُهْدٌ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ وَالْمَيْتَةَ مِنَ الْجَهْدِ، حَتَّى جَعَلَ أَحَدُهُمْ يَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنَ الْجُوعِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (44: 10 و11) فَأَتَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ اسْتَقِ لِمُضَرَ فَإِنَّهَا قَدْ هَلَكَتْ. فَقَالَ: «مُضَرُ؟» مُتَعَجِّبًا.؟ وَفِي رِوَايَةٍ فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ جِئْتَ تَأْمُرُنَا بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا فَادْعُ اللهَ، فَدَعَا لَهُمْ فَكَشَفَ اللهُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ وَمُطِرُوا، فَعَادُوا إِلَى حَالِهِمْ وَمَكْرِهِمُ الْأَوَّلِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِيهِ قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (8: 30) الْآيَةَ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا وَتَفْسِيرِ آيَةِ 7: 99 وَآيَةِ (3: 54) مَعْنَى الْمَكْرِ فِي اللُّغَةِ وَكَوْنِهِ حَسَنًا وَسَيِّئًا وَمَعْنَى إِسْنَادِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى: وَخُلَاصَتُهُ: أَنَّ الْمَكْرَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّدْبِيرِ الْخَفِيِّ الَّذِي يُفْضِي بِالْمَمْكُورِ بِهِ إِلَى مَا لَا يَحْتَسِبُهُ وَلَا يَتَوَقَّعُهُ، وَأَنَّ مَكْرَهُ تَعَالَى وَهُوَ تَدْبِيرُهُ الَّذِي يَخْفَى عَلَى النَّاسِ، إِنَّمَا يَكُونُ بِإِقَامَةِ سُنَنِهِ وَإِتْمَامِ حُكْمِهِ فِي نِظَامِ الْعَالَمِ وَكُلُّهُ حَقٌّ وَعَدْلٌ وَحُسْنٌ، وَلَكِنْ مَا يَسُوءُ النَّاسَ مِنْهُ يُسَمُّونَهُ شَرًّا وَسُوءًا، وَإِنْ كَانَ جَزَاءً عَدْلًا، وَيُرَاجَعْ تَحْقِيقُهُ فِي الْجُزْءِ 3 و9 مِنَ التَّفْسِيرِ {قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُسْرِعُونَ فِي الْمَكْرِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْمُفَاجَأَةُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَسْرَعُ مَكْرًا مِنْكُمْ؛ إِذْ سَبَقَ فِي تَدْبِيرِهِ لِأُمُورِ الْعَالَمِ وَتَقْدِيرِهِ لِلْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، أَنْ يُعَاقِبَكُمْ عَلَى مَكْرِكُمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ، وَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ: {إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} يَعْنِي الْحَفَظَةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ وَكَّلَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِإِحْصَاءِ أَعْمَالِ النَّاسِ وَكَتْبِهَا لِلْحِسَابِ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ. وَكِتَابَةُ الْمَكْرِ عِبَارَةٌ عَنْ كِتَابَةِ مُتَعَلِّقِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي كَانَ هُوَ الْبَاعِثَ عَلَيْهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تُكْتَبَ نِيَّتُهَا وَهِيَ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيُّ لِلْمَكْرِ.
وَالْجُمْلَةُ تَتِمَّةُ الْجَوَابِ الَّذِي لَقَّنَهُ اللهُ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُبَلِّغُهُ عَنْهُ عَزَّ وَجَلَّ بِلَفْظِهِ الْمُوحَى إِلَيْهِ لَا بِمَعْنَاهُ، وَلِذَلِكَ يَدْخُلُ فِي التَّبْلِيغِ لَفْظُ {قُلْ} وَهُوَ خِطَابُ اللهِ لَهُ صلى الله عليه وسلم مَعَ مَقُولِهِ الْخَاصِّ بِهِمْ كَقَوْلِهِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (109: 1) وَأَمْثَالُهُ الْكَثِيرَةُ فِي الْقُرْآنِ، بَلْ أَقُولُ: إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَلَّغَهُمُ الْآيَةَ بِرُمَّتِهَا: مَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَمَا أَمَرَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي ضِمْنِ السُّورَةِ كُلِّهَا لَا وَحْدَهُ، وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ فِي أَمْثَالِهِ.
فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادَ أَنْ يَقُولَ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ كَلِمَةَ: {اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} مِنْ قَبْلِ نَفْسِهِ؛ فَيَسْتَشْكِلَ الِالْتِفَاتُ فِيهَا عَنِ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي: {إِنَّ رُسُلَنَا} بَلْ هُوَ جَارٍ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِيهِ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي تَصْوِيرِ تَسْخِيرِ اللهِ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ فِي كِتَابَةِ الْأَعْمَالِ مِنَ التَّعْبِيرِ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ {إِنَّ رُسُلَهُ يَكْتُبُونَ} إِلَخْ؛ لِأَنَّ فِي ضَمِيرَ الْجَمْعِ مِنْ تَصْوِيرِ الْعَظْمَةِ فِي هَذَا التَّدْبِيرِ الْعَظِيمِ، وَالنِّظَامِ الدَّقِيقِ، مَا يَشْعُرُ بِهِ كُلُّ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ سَيِّدَةِ اللُّغَاتِ، الَّتِي اعْتَرَفَ عُلَمَاءُ اللُّغَاتِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ بِأَنَّهَا تَفُوقُ جَمِيعَ لُغَاتِهِمْ، فِي التَّعْبِيرِ عَنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَكَمَالِهِ وَعَظَمَتِهِ. وَمِثْلُ هَذَا الِالْتِفَاتِ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْكَهْفِ: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (18: 109) وَقَرَأَ نَافِعٌ وَيَعْقُوبُ {يَمْكُرُونَ} بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَفَائِدَتُهُ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ ذَلِكَ شَامِلٌ لِلْغَائِبِينَ كَالْحَاضِرِينَ.
وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي كِتَابَةِ الْمَلَائِكَةِ الْحَفَظَةِ لِأَعْمَالِ النَّاسِ وَحِكْمَتِهَا فِي تَفْسِيرِ {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} (6: 61) مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَشَرَحْنَا قَبْلَهَا مَسْأَلَةَ كِتَابَةِ مَقَادِيرِ الْخَلْقِ كُلِّهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} (6: 59) مِنْهَا فَيُرَاجِعُ الْمَوْضُوعُ كُلُّهُ فِي جُزْءِ التَّفْسِيرِ السَّابِعِ مَنْ شَاءَ، وَمَنِ اكْتَفَى بِالْإِجْمَالِ فَحَسْبُهُ الْإِيمَانُ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَكْتُبُ الْأَعْمَالَ كِتَابَةً غَيْبِيَّةً لَمْ يُكَلِّفْنَا اللهُ تَعَالَى مَعْرِفَةَ صِفَتِهَا، وَإِنَّمَا كَلَّفَنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِأَنَّ لَهُ نِظَامًا حَكِيمًا فِي إِحْصَائِهَا؛ لِأَجْلِ مُرَاقَبَتِنَا لَهُ فِيهَا؛ لِنَلْتَزِمَ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ وَالْخَيْرَ وَنَجْتَنِبَ أَضْدَادَهَا.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ اسْمَ التَّفْضِيلِ: (أَسْرَعُ) فِيهَا عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الْفِعْلِ الثُّلَاثِيِّ: سَرُعَ كَضَخُمَ وَحَسُنَ سَرْعًا وَسُرْعَةً فَهُوَ سَرِعٌ وَسَرِيعٌ وَسَرَاعٌ وَالْمُسْتَعْمَلُ بِكَثْرَةٍ الرُّبَاعِيُّ أَسْرَعَ، وَفِي اللِّسَانِ أَنْ سِيبَوَيْهِ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: أَسْرَعَ طَلَبُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ وَتَكَلُّفُهُ كَأَنَّهُ أَسْرَعَ الْمَشْيَ أَيْ عَجَّلَهُ، وَأَمَّا سَرُعَ فَكَأَنَّهَا غَرِيزَةٌ، وَأَنَّ ابْنَ جِنِّيٍّ اسْتَعْمَلَ أَسْرَعَ مُتَعَدِّيًا، انْتَهَى. وَجَوَّزَ بَعْضُ النُّحَاةِ كَوْنَ اسْمِ التَّفْضِيلِ مِثْلِ (أَسْرَعُ) مُطْلَقًا، أَوْ إِذَا لَمْ تَكُنْ هَمْزَتُهُ لِلتَّعْدِيَةِ.
ثُمَّ ضَرَبَ اللهُ تَعَالَى مَثَلًا لِهَؤُلَاءِ النَّاسِ هُوَ مِنْ أَبْلَغِ أَمْثَالِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} السَّيْرُ الْمُضِيُّ وَالِانْتِقَالُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ وَالتَّسْيِيرُ جَعْلُ الشَّيْءِ أَوِ الشَّخْصِ يَسِيرُ بِتَسْخِيرِهِ أَوْ إِعْطَائِهِ مَا يَسِيرُ عَلَيْهِ مِنْ دَابَّةٍ أَوْ مَرْكَّبَةٍ أَوْ سَفِينَةٍ، أَيْ إِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا وَهَبَكُمْ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى السَّيْرِ، وَمَا سَخَّرَ لَكُمْ مِنَ الْإِبِلِ وَالدَّوَابِّ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ (وَزَادَنَا فِي هَذَا الْعَصْرِ الْقِطَارَاتِ وَالسَّيَّارَاتِ الْبُخَارِيَّةَ وَالطَّيَّارَاتِ الَّتِي تَسِيرُ فِي الْجَوَاءِ) {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ} أَيْ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي إِحْدَى حَوَادِثِ سَيْرِكُمُ الْبَحْرِيِّ رَاكِبِينَ فِي الْفُلْكِ الَّتِي سَخَّرَهَا لَكُمْ، وَالْفُلْكُ بِالضَّمِّ اسْمٌ لِلسَّفِينَةِ الْمُفْرَدَةِ وَلِجَمْعِهَا وَهُوَ السُّفُنُ وَالسَّفَائِنُ (مُفْرَدُهُ وَجَمْعُهُ وَاحِدٌ) وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْجَمْعُ إِذْ قَالَ: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} أَيْ وَجَرَتْ هَذِهِ الْفُلْكُ بِمَنْ فِيهَا بِسَبَبِ رِيحٍ طَيِّبَةٍ، أَيْ رُخَاءٍ مُوَاتِيَةٍ لَهُمْ فِي جِهَةِ سِيَرِهِمْ، وَالطِّيبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَا يُوَافِقُ الْغَرَضَ وَالْمَنْفَعَةَ؛ يُقَالُ: رِزْقٌ طَيِّبٌ، وَنَفْسٌ طَيِّبَةٌ، وَبَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ، وَشَجَرَةٌ طَيِّبَةٌ، وَفِي قَوْلِهِ: {بِهِمْ} الْتِفَاتٌ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ فَائِدَتُهُ _ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ _ الْمُبَالَغَةُ، كَأَنَّهُ يَذْكُرُ لِغَيْرِهِمْ حَالَهُمْ لِيُعْجِبَهُمْ مِنْهَا وَيَسْتَدْعِيَ مِنْهُمُ الْإِنْكَارَ وَالتَّقْبِيحَ لَهَا لِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ كُفْرِ النِّعْمَةِ وَفَرِحُوا بِهَا لِمَا يَكُونُ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنَ الرَّاحَةِ وَالِانْتِعَاشِ وَالْأَمْنِ مِنْ دُوَارِ الْبَحْرِ وَالتَّمَتُّعِ بِمَنْظَرِهِ الْجَمِيلِ، فِي ذَلِكَ الْهَوَاءِ الْعَلِيلِ جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ أَيْ جَاءَتِ الْفُلْكَ أَوِ الرِّيحَ الطَّيِّبَةَ، أَيْ لَاقَتْهَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ قَوِيَّةٌ.
يُقَالُ: عَصَفَتِ الرِّيحُ فَهِيَ عَاصِفٌ وَعَاصِفَةٌ أَيْ تَعْصِفُ الْأَشْيَاءَ فَتَكُونُ كَعَصْفِ النَّبَاتِ وَهُوَ الْحُطَامُ الْمُتَكَسِّرَةُ مِنْهُ: {وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} أَيْ وَاضْطَرَبَ الْبَحْرُ وَتَمَوَّجَ سَطْحُهُ كُلُّهُ، فَتَلَقَّاهُمْ مَوْجُهُ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ وَالنَّوَاحِي بِتَأْثِيرِ الرِّيحِ، فَهِيَ أَنْوَاعٌ مِنْهَا مَا يَهُبُّ مِنْ نَاحِيَةٍ وَاحِدَةٍ كَالرِّيَاحِ الْأَرْبَعِ، وَمِنْهَا النَّكْبَاءُ وَهِي الْمُنْحَرِفَةُ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَ رِيحَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَمِنْهَا الْمُتَنَاوِحَةُ الَّتِي تَهُبُّ مِنْ جَمِيعِ النَّوَاحِي، وَمِنْهَا الْإِعْصَارُ وَهِي الرِّيحُ الَّتِي تَدُورُ فَتَكُونُ عَمُودِيَّةً فَيَرْتَفِعُ بِهَا مَا تَدُورُ عَلَيْهِ مِنَ التُّرَابِ وَالْحَصَى مِنَ الْأَرْضِ، وَالْمَاءِ مِنْ سَطْحِ الْبَحْرِ بِمَا عَلَيْهِ وَمَا فِيهِ مَنْ سَمَكٍ وَغَيْرِهِ ثُمَّ يُلْقَى فِي مَكَانٍ آخَرَ {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أَيِ اعْتَقَدُوا اعْتِقَادًا رَاجِحًا أَنَّهُمْ هَلَكُوا بِإِحَاطَةِ الْمَوْجِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، كَمَا يُحِيطُ الْعَدُوُّ الْمُحَارِبُ بِعَدُوِّهِ إِذْ يُطَوِّقُهُ بِمَا يَقْطَعُ عَلَيْهِ سُبُلَ النَّجَاةِ. ذَلِكَ بِأَنَّ فِعْلَ الْعَاصِفِ يَهْبِطُ بِهِمْ فِي لُجَجِ الْبَحْرِ تَارَةً كَأَنَّهُمْ سَقَطُوا فِي هَاوِيَةٍ سَحِيقَةٍ، وَلَا يَلْبَثُ أَنْ يَثِبَ بِهِمْ إِلَى أَعْلَى غَوَارِبِ الْمَوْجِ كَأَنَّهُمْ فِي قُنَّةِ جَبَلٍ شَاهِقٍ أَصَابَهُ رَجْفَةُ زَلْزَلَةٍ شَدِيدَةٍ {دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} هَذَا جَوَابٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ} إِلَخْ، أَيْ حَتَّى إِذَا مَا نَزَلَ بِهِمْ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ نُذُرِ الْعَذَابِ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ دُونَ النَّجَاةِ جَمِيعُ الْأَسْبَابِ، دَعَوُا اللهَ فِي كَشْفِهِ عَنْهُمْ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، لَا يَتَوَجَّهُونَ مَعَهُ إِلَى وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ، وَلَا نِدٍّ وَلَا شَرِيكٍ، مِمَّنْ كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهِمْ إِلَيْهِ فِي حَالِ الرَّخَاءِ، عَازِمِينَ عَلَى طَاعَتِهِ قَائِلِينَ: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} أَيْ نُقْسِمُ لَكَ يَا رَبَّنَا لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ التَّهْلُكَةِ أَوِ الْعَاصِفَةِ لَنَكُونَنَّ لَكَ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّاكِرِينَ لِنَعْمَائِكَ لَا نَكْفُرُ مِنْهَا شَيْئًا، وَلَا نُشْرِكُ بِكَ أَحَدًا، وَلَا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ وَلِيًّا وَلَا شَفِيعًا، وَلَا نَتَوَجَّهُ فِي تَفْرِيجِ كُرُوبِنَا وَقَضَاءِ حَاجِنَا إِلَى وَثَنٍ وَلَا صَنَمٍ، وَلَا إِلَى وَلِيٍّ وَلَا نَبِيٍّ، وَلَا مَلِكٍ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا بَيَانٌ صَرِيحٌ لِكَوْنِ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يَدْعُونَ فِي أَوْقَاتِ الشَّدَائِدِ وَتَقَطُّعِ الْأَسْبَابِ بِهِمْ إِلَّا اللهَ رَبَّهُمْ، وَلَكِنْ مَنْ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ مِنْ مُسْلِمِي هَذَا الزَّمَانِ بِزَعْمِهِمْ لَا يَدْعُونَ عِنْدَ أَشَدِّ الضِّيقِ إِلَّا مَعْبُودِيهِمْ مِنَ الْمَيِّتِينَ، كَالْبَدَوِيِّ وَالرِّفَاعِيِّ وَالدُّسُوقِيِّ وَالْجِيلَانِيِّ وَالْمَتْبُولِيِّ وَأَبِي سَرِيعٍ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ، وَتَجِدُ مِنْ حَمْلَةِ الْعَمَائِمِ الْأَزْهَرِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ وَلاسيما سَدَنَةِ الْمَشَاهِدِ الْمَعْبُودَةِ الَّذِينَ يَتَمَتَّعُونَ بِأَوْقَافِهَا وَنُذُورِهَا، مَنْ يُغْرِيهِمْ بِشِرْكِهِمْ وَيَتَأَوَّلُهُ لَهُمْ بِتَسْمِيَتِهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ كَالتَّوَسُّلِ وَغَيْرِهِ.
وَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي مِصْرَ وَسُورِيَةَ حِكَايَةً يَتَنَاقَلُونَهَا رُبَّمَا تَكَرَّرَتْ فِي الْقُطْرَيْنِ لِتُشَابُهِ أَهْلِهِمَا وَأَكْثَرِ مُسْلِمِي هَذَا الْعَصْرِ فِي خُرَافَاتِهِمْ، وَمُلَخَّصُهَا أَنَّ جَمَاعَةً رَكِبُوا الْبَحْرَ فَهَاجَ بِهِمْ حَتَّى أَشْرَفُوا عَلَى الْغَرَقِ فَصَارُوا يَسْتَغِيثُونَ مُعْتَقَدِيهِمْ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: يَا سَيِّدُ يَا بَدَوِيُّ، وَبَعْضُهُمْ يَصِيحُ يَا رِفَاعِيُّ، وَآخَرُ يَهْتِفُ: يَا عَبْدَ الْقَادِرِ يَا جِيلَانِيُّ..... إِلَخْ وَكَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ مُوَحِّدٌ ضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا فَقَالَ: يَارَبِّ أَغْرِقْ أَغْرِقْ، مَا بَقِيَ أَحَدٌ يَعْرِفُكَ.
وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَالَ السَّيِّدُ حَسَنُ صِدِّيقٍ الْهِنْدِيُّ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْآيَةِ مِنْ تَفْسِيرِهِ فَتْحِ الرَّحْمَنِ: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ جُبِلُوا عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى اللهِ فِي الشَّدَائِدِ، وَأَنَّ الْمُضْطَرَّ يُجَابُ دُعَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى أَصْنَامِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَمَا شَابَهَهَا. فَيَا عَجَبًا لِمَا حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ طَوَائِفَ يَعْتَقِدُونَ فِي الْأَمْوَاتِ، فَإِذَا عَرَضَتْ لَهُمْ فِي الْبَحْرِ مِثْلُ هَذِهِ الْحَالَةِ، دَعَوُا الْأَمْوَاتَ وَلَمْ يُخْلِصُوا الدُّعَاءَ لِلَّهِ كَمَا فَعَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، كَمَا تَوَاتَرَ ذَلِكَ إِلَيْنَا تَوَاتُرًا يَحْصُلُ بِهِ الْقَطْعُ، فَانْظُرْ هَدَاكَ اللهُ مَا فَعَلَتْ هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتُ الشَّيْطَانِيَّةُ؟ وَأَيْنَ وَصَلَ أَهْلُهَا؟ وَإِلَى أَيْنَ رَمَى بِهِمُ الشَّيْطَانُ؟ وَكَيْفَ اقْتَادَهُمْ وَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ حَتَّى انْقَادُوا لَهُ انْقِيَادًا مَا كَانَ يَطْمَعُ فِي مِثْلِهِ وَلَا فِي بَعْضِهِ مِنْ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَقَالَ السَّيِّدُ مَحْمُودٌ الْأُلُوسِيُّ الْعِرَاقِيُّ فِي تَفْسِيرِهَا مِنْ رُوحِ الْمَعَانِي مَا نَصُّهُ:
أَيْ دَعَوْهُ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ إِشْرَاكٍ لِرُجُوعِهِمْ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ إِلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَأَنَّهُ لَا مُتَصَرِّفَ إِلَّا اللهُ سُبْحَانَهُ الْمَرْكُوزُ فِي طَبَائِعِ الْعَالَمِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنِّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ فَرَّ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ فَرَكِبَ الْبَحْرَ فَأَصَابَتْهُمْ عَاصِفٌ فَقَالَ أَصْحَابُ السَّفِينَةِ لِأَهْلِ السَّفِينَةِ: أَخْلِصُوا فَإِنَّ آلِهَتَكُمْ لَا تُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا، فَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَئِنْ لَمْ يُنْجِنِي فِي الْبَحْرِ إِلَّا الْإِخْلَاصُ مَا يُنْجِينِي فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ، اللهُمَّ إِنَّ لَكَ عَهْدًا إِنْ أَنْتَ عَافَيْتَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ أَنْ آتِيَ مُحَمَّدًا حَتَّى أَضَعَ يَدِيَ فِي يَدِهِ فَلْأَجِدَنَّهُ عَفُوًّا كَرِيمًا، قَالَ: فَجَاءَ فَأَسْلَمَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عِكْرِمَةَ لَمَّا رَكِبَ السَّفِينَةَ وَأَخَذَتْهُمُ الرِّيحُ فَجَعَلُوا يَدْعُونَ اللهَ تَعَالَى وَيُوَحِّدُونَهُ قَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا مَكَانٌ لَا يَنْفَعُ فِيهِ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، قَالَ: فَهَذَا إِلَهُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّذِي يَدْعُونَا إِلَيْهِ فَارْجِعُوا بِنَا، فَرَجَعَ وَأَسْلَمَ، ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ تَخْصِيصَ الدُّعَاءِ فَقَطْ بِهِ سُبْحَانَهُ، بَلْ تَخْصِيصَ الْعِبَادَةِ بِهِ تَعَالَى أَيْضًا، لِأَنَّهُمْ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ لَا يَكُونُونَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَدْعُونَ غَيْرَهُ تَعَالَى فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ النَّاسَ الْيَوْمَ إِذَا اعْتَرَاهُمْ أَمْرٌ خَطِيرٌ، وَخَطْبٌ جَسِيمٌ فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ، دَعَوْا مَنْ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَلَا يَرَى وَلَا يَسْمَعُ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَدْعُو الْخِضْرَ وَإِلْيَاسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنَادِي أَبَا الْخَمِيسِ وَالْعَبَّاسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَغِيثُ بِأَحَدِ الْأَئِمَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَضْرَعُ إِلَى شَيْخٍ مِنْ مَشَايِخِ الْأُمَّةِ، وَلَا تَرَى فِيهِمْ أَحَدًا يَخُصُّ مَوْلَاهُ، بِتَضَرُّعِهِ وَدُعَاهُ، وَلَا يَكَادُ يَمُرُّ لَهُ بِبَالٍ، أَنَّهُ لَوْ دَعَا اللهَ تَعَالَى وَحْدَهُ يَنْجُو مِنْ هَاتِيكَ الْأَهْوَالِ، فَبِاللهِ تَعَالَى عَلَيْكَ قُلْ لِي أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ أَهْدَى سَبِيلًا، وَأَيُّ الدَّاعِيَيْنِ أَقُومُ قِيلًا! وَإِلَى اللهِ تَعَالَى الْمُشْتَكَى مِنْ زَمَانٍ عَصَفَتْ فِيهِ رِيحُ الْجَهَالَةِ وَتَلَاطَمَتْ أَمْوَاجُ الضَّلَالَةِ، وَخُرِّقَتْ سَفِينَةُ الشَّرِيعَةِ، وَاتُّخِذَتِ الِاسْتِغَاثَةُ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى لِلنَّجَاةِ ذَرِيعَةً، وَتَعَذَّرَ عَلَى الْعَارِفِينَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَحَالَتْ دُونَ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ صُنُوفُ الْحُتُوفِ. اهـ.
أَقُولُ- يَعْنِي الشِّهَابُ الْأَلُوسِيُّ رَحِمَهُ اللهُ- إِنَّ فُشُوَّ هَذَا الشِّرْكِ فِي النَّاسِ عَامَّتِهِمْ، وَشُيُوخِ الْبِدَعِ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ حُكَّامِهِمْ، جَعَلَ نَهْيَ الْعَارِفِينَ عَنْهُ، وَأَمْرَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ الْمَحْضِ، مِنَ الْأُمُورِ الْمُتَعَذِّرَةِ، الَّتِي يُخْشَى عَلَى الْمُجَاهِرِ بِهَا الْحُتُوفُ وَالْهَلَكَةُ. وَنَحْنُ مَا أَمْكَنَنَا هَذِهِ الْمُجَاهَرَةُ فِي مِصْرَ إِلَّا بِمَا رَسَخَ فِيهَا مِنَ الْحُرِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ بِتَفَرْنُجِ الْحُكُومَةِ. وَلَمَّا جَهَرْتُ بِهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي دَرْسٍ عَامٍّ بِالْمَسْجِدِ الْحُسَيْنِيِّ سَنَةَ 1316 هَاجَ عَلَيَّ النَّاسُ هَيْجَةً شُؤْمَى، وَحَاوَلَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَقْتُلَنِي جَهْرًا، فَمَا يَقُولُ شَيْخُ الْأَزْهَرِ وَمُحَرِّرُو مَجَلَّةِ الْمَشْيَخَةِ (نُورِ الْإِسْلَامِ) فِي السَّيِّدِ الْأَلُوسِيِّ وَفِي السَّيِّدِ حَسَنِ صِدِّيقٍ؟ لَا يَبْعُدُ أَنْ تَطْعَنَ هَذِهِ الْمَجَلَّةُ فِي دِينِهِمَا وَعَقِيدَتِهِمَا كَمَا طَعَنَتْ عَلَى دِينِ الْإِمَامِ الشَّوْكَانِيِّ فِي جُزْئِهَا الَّذِي صَدَرَ أَثْنَاءَ كِتَابَتِنَا لِتَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ.